
كشفت تقارير صحافية صراعات داخل بنك السودان المركزي بين شركات تصدير الذهب ونافين في الدولة، وكانت الاجتماعات الرسمية وشعبة مصدري الذهب كشفت رأس جبل الجليد من هذه الصراعات.
وكتب الصحافي السوداني سليمان سري تقرير بثه راديو دبنقا جاء فيه:
في ظل تصاعد التوترات بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، شهد بنك السودان المركزي اضطرابات داخلية غير مسبوقة، على خلفية قرارات تنظيمية تتعلق بصادرات الذهب، ما أدى إلى سلسلة من الإقالات في قيادة البنك، وأثار جدلاً واسعاً حول استقلالية السياسات النقدية في البلاد.
صراع النفوذ
دخل بنك السودان المركزي في مواجهة مباشرة مع شركات تصدير الذهب وبعض القيادات النافذة في الدولة، عقب قرارات أصدرها البنك بحظر شراء وتصدير الذهب من قبل الشركات أو من إنتاج التعدين الأهلي، واقتصار الشراء والتصدير على البنك المركزي أو من يفوضه. هذه الخطوة التي هدفت إلى ضبط سوق الذهب، قوبلت برفض واسع من أصحاب المصالح، ما أدى إلى تصعيد سياسي انتهى بإقالة المحافظ برعي الصديق علي أحمد بقرار من رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، بعد اجتماع عاصف ضم ممثلي الشركات ووزير المالية. وتم تعيين آمنة ميرغني حسن التوم خلفاً له، لتكون أول سيدة تتولى هذا المنصب، قبل أن يصدر قرار ثانٍ بإقالة نائب المحافظ محمد عثمان أحمد محمد خير بعد أقل من أسبوعين، ما كشف عن تصاعد حاد في صراعات النفوذ داخل البنك.
أزمة استقلال
- أوضح الخبير المصرفي عمر سيد أحمد، في حديثه لراديو دبنقا، أن تكرار الإقالات في قيادة البنك المركزي يعكس مؤشرات تسييس القرار النقدي وغياب الاستقلال المؤسسي، مشيراً إلى أن الحكومات المتعاقبة تعاملت مع البنك كذراع تمويل للسياسات المالية، وليس كسلطة نقدية مستقلة. هذا النهج، بحسب سيد أحمد، أدى إلى تآكل المصداقية المؤسسية وفقدان الاستمرارية في السياسات، حيث أصبح منصب المحافظ عرضة للتبديل كلما تغيّر ميزان القوى أو نشب خلاف سياسي، خاصة في ظل الصراع المتزايد حول ملف الذهب الذي تحول إلى مصدر رئيسي للنقد الأجنبي، يغطي أكثر من 60% من حصائل الصادرات السودانية.
ملف الذهب
أشار سيد أحمد إلى أن قرار المحافظ السابق في منتصف عام 2024 بحصر تصدير الذهب عبر البنك المركزي واجه مقاومة شرسة من الأطراف المستفيدة من التهريب والفروقات السعرية، ما حول القرار من إجراء اقتصادي إلى معركة نفوذ بين البنك المركزي وتجار الذهب ومؤسسات رسمية وغير رسمية. وانتهت هذه المواجهة بإقالة المحافظ في أكتوبر الماضي، في مؤشر على حجم المصالح المتشابكة التي تحيط بقطاع الذهب. كما أكد أن غياب الإطار القانوني الذي يضمن استقلالية البنك المركزي، وعدم وضوح شروط إقالة المحافظ أو مدة ولايته، جعل المنصب عرضة للعزل الإداري دون مساءلة، ما أضعف من استقلالية البنك وجعله أداة في الصراع السياسي والاقتصادي، خاصة بعد الانقلاب والحرب الجارية.
غياب الشفافية
لفت سيد أحمد إلى أن أحد أبرز أوجه الأزمة يتمثل في غياب الشفافية في ملف صادر الذهب، حيث لا توجد منصة رسمية موحدة لتوثيق بيانات الإنتاج والتصدير، وكل جهة سواء كانت بنكاً أو جهازاً رسمياً أو شركة تعدين تمتلك أرقامها الخاصة، ما يخلق غموضاً متعمداً ويضعف المساءلة العامة. هذا الغموض يفتح الباب أمام صراعات نفوذ حول من يملك المعلومة ومن يتحكم في السعر، في وقت تشير فيه التقديرات إلى أن ما بين 50 إلى 80% من الذهب المنتج يتم تهريبه خارج القنوات الرسمية، ما يفاقم من فقدان الثقة في النظام المالي ويضعف قدرة الدولة على ضبط الموارد.
تداعيات الإقالات
وحول تأثير الإقالات المتكررة على النظام المصرفي، أكد سيد أحمد أن تغيير المحافظ كل عامين أو أقل يفقد البنك المركزي ذاكرته المؤسسية، ويجعل السياسات قصيرة العمر، حيث تتغير القرارات قبل أن تؤتي نتائجها، ما يؤدي إلى اضطراب تنظيمي دائم داخل القطاع المصرفي. وأوضح أن البنوك الأجنبية والمراسلين الماليين يراقبون استقرار القيادة قبل توسيع حدود الائتمان أو فتح حسابات جديدة، وعندما تتكرر الإقالات، يُدرج السودان ضمن الدول عالية المخاطر، وترتفع كلفة التحويلات الخارجية، وتُجمّد حسابات المراسلين إن وجدت. كما أن المستثمرين المحليين والأجانب يفقدون الثقة في استقرار اللوائح والسياسات النقدية، ما يؤدي إلى تراجع التدفقات الاستثمارية وتوقف برامج إعادة الإعمار، بينما تعاني المصارف المحلية من تغيير التعليمات المتكرر في التمويل والاحتياطي، ما يربك إدارتها ويضعف استقرارها التشغيلي.
جدل القرار
وفي تقييمه لقرار قصر تصدير الذهب عبر البنك المركزي، قال سيد أحمد إن القرار من حيث النية كان يستهدف ضبط الحصائل وتقييد التهريب واستعادة السيطرة على موارد النقد الأجنبي، لكنه أبطأ من حيث التنفيذ بتحويل البنك المركزي من جهة رقابية إلى جهة تشغيلية، ما خلق تضارب مصالح وأضعف دوره كمُنظم للسوق. وأضاف أن المزايا النظرية للقرار، مثل توحيد المنفذ الرسمي وتقليل التسرب وضمان دخول حصائل الصادر، اصطدمت بعيوب عملية أبرزها ضعف الكفاءة التجارية والتسعير، ما أرسل إشارات سلبية للمستثمرين وأربك السوق.
إصلاحات مطلوبة
اقترح سيد أحمد أن البديل الأنسب لمعالجة الأزمة هو إنشاء سوق منظم للذهب عبر بورصة وطنية ترتبط بمصفاة محايدة ومنصة تداول رسمية “مزاد إلكتروني”، مع ترخيص مصدرين مؤهلين وفق معايير الامتثال والشفافية، وضمان إعادة حصائل الصادر عبر النظام المصرفي، لتحقيق نموذج اقتصادي يوازن بين الشفافية والانفتاح دون احتكار أو تقييد. كما دعا إلى تعديل عاجل لقانون بنك السودان المركزي، بحيث تُحدد مدة ولاية المحافظ بست سنوات غير قابلة للتجديد، وعدم عزله إلا لأسباب قانونية واضحة ومعلنة، إلى جانب إنشاء مجلس للسياسة النقدية يضم خبراء مستقلين، ونشر بيانات مختصرة بعد كل اجتماع، مع فصلٍ تام بين الدور الرقابي للبنك المركزي والدور التجاري للجهات التنفيذية الأخرى.
خارطة إصلاح
شدد سيد أحمد على أهمية تعزيز المراجعة الداخلية وتعيين مدقق خارجي مستقل، وتحديد مدة ولاية النواب بأربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، مع تداخل مددهم لضمان الاستمرارية المؤسسية. كما أوصى بنشر تقارير شهرية حول إنتاج الذهب وحصائل الصادر، وإنشاء منصة إلكترونية موحدة للشفافية، إلى جانب إصدار حزمة من القرارات الاستقرارية خلال 12 شهراً بعد وقف الحرب، تشمل تعديل قانون بنك السودان المركزي، واتفاقاً مؤسسياً مكتوباً بين البنك ووزارة المالية لتنظيم إدارة حصائل الصادر، وتعهد حكومي بعدم التدخل في السياسات النقدية، إضافة إلى تحديث منظومة الامتثال المصرفي، وتفعيل برنامج التواصل المؤسسي الذي يصدر تقارير التضخم وسعر الصرف بشكل دوري.
أزمة بنيوية
خلص الخبير المصرفي عمر سيد أحمد إلى أن إقالة محافظ البنك المركزي في أكتوبر 2025 لم تكن حدثاً عابراً، بل انعكاساً لأزمة بنيوية في استقلالية البنك المركزي، مشيراً إلى أن كثرة الإقالات تجعل الجهاز المصرفي يعمل دون بوصلة واضحة، وتفقد السودان ثقة المستثمرين والمراسلين الماليين في الخارج. وأكد أن الطريق الوحيد للإصلاح هو ترسيخ الاستقلال المؤسسي والقانوني للبنك المركزي، وفصل السياسة النقدية عن الصراعات التجارية، مع اعتماد نموذج السوق المنظم للذهب، ليعود البنك المركزي إلى موقعه الطبيعي كحارسٍ للاستقرار المالي

